عبدالنبي النديم يكتب: الفشخرة المصرية .. صناعة محلية

عبد النبي النديم
عبد النبي النديم

قابلت صديقي معلم اللغة العربية، فى المدرسة وعلى غير العادة وجدته شارد الفكر، واضعا يده على خده، يتمتم بكلمات غير مفهومة وغير مسموعة، فسألته مالك يا عم الحج ..زرعتها قمح ..طلعت بطيخ ولا إيه؟

أرسل إلي ابتسامة باهتة، قالي سيبنى في حالي والنبي يا أخويا.. أنا في هم يرقد جمل ويهد جبل..

اعتدلت محاولاً مشاركته فى همه، أحفزه على الحديث والفضفضة، لأخرجه من حالة الشرود والتوهان التي أصابته.. 

قالي بنتي هتتجوز الشهر اللى بعد الجاي..

عرفت على طول الهم والنكد المحيط بصديقي العزيز، فالجواز دلوقتي أصبح بمثابة شر لا بد منه «هم بالليل..  ومذلة بالنهار».. 

فالفرحة بستر البنت، معجون بالتعب والشقا والسلف من اللى تعرفه واللى متعرفوش، وعلشان تشوف بنتك بفستان الفرح ومتكسرش فرحتها، ثمنها دلوقتى سنوات كتيرة من الكد والتعب، تفضل تسدد أقساط وديون، وممكن كمان تتحبس لو مسددتش إيصالات الأمانة اللى باصم عليها.

فالعروسة وأمها بيبقى همهم الوحيد إن عزال وجهاز بنتهم مينقصش قشاية، علشان الناس متاكلش وشهم، ويملو عين حماتها بالحاجة اللي رصوها في شقة إبنها، وهما يشتروا.. والأب يدفع، هما يرصوا كراتين فوق بعض، والأب يستدين من كل خلق الله اللي حواليه.. 

ومش العروسة بس اللى حكمها على أبوها وأمها إن عزالها يكون جاهز من مجاميعه، لا كمان العريس يشترى أو يأجر الشقة ويفرشها نوم وسفرة وصالون وأطفال وقبل كله ده الشبكة الذهب ، وكتير من الزجيات فشلت بسبب الخلاف على جرامات الذهب وقيمة الشبكة.. إلخ ..إلخ..

وطبعا في العصر اللى عايشنه الأب برضه هو اللى متكفل بكل التجهيزات دى عند السواد الأعظم من حالات الزواج، والتى لا تقل تكلفة الشقة بجهازها في الأرياف أو في منطقة شعبية أو حتي في المدن الجديدة، بأي حال من الأحوال عن 400 أو 500 ألف جنيه، والأب يجيب منين وهو موظف أو معلم أو فلاح أو أي مواطن على أد حاله، يدوب مرتبه بيقضي الشهر بالمحايلة.. 

بجد أسلوب المصريين فى تجهيزات الزواج أصبح مبالغ فيه بشكل غير مقبول وتعجيزي، والفلوس اللى بيحتاجها الشاب أو الفتاة لإتمام الزواج تقطم ظهر أهاليهم.. 

وبعيدا عن التجهيزات في منزل الزوجية، تيجي مصاريف الفرح، بداية من حجز فى قاعة الأفراح بعشرات الآلاف من الجنيهات، ويسبقها كوافير وفستان فرح وكمان التقليعة الجديدة اللى ظهرت مع انتشار كورونا كطقس جديد من طقوس الزاواج، هو الفوتوسيشن، علشان العرسان ياخدو كام لقطة، بمبالغ ليست بالقليلة.. وبرضه الأب يدفع. 

كل هذه الضغوط الإلتزامات تنهال على الأسرة المصرية قبل أن تقع على عاتق الشباب، وكلها تعد من قبيل الفشخرة والتباهي أمام الناس علشان ميتفضحوش، وما يهمش الأب يستلف من مين أو يستدين من مين، ويفضل يسدد ديونه كام سنه أدام، كلها أمور غريبة على المجتمع المصري، أفرزتها عادات اجتماعية سيئة تراكمت خلال السنوات الماضية، والتي تركت تلال من السلبيات في كافة طبقات المجتمع، والشماعة اللى بيعلقوا عليها المغالاة في تكاليف الزواج، والفشخرة التي أصابت الأسرة المصرية، يقولوا أهي علقة وتعدي..  يعني نفضح نفسنا أدام الناس ويقولوا معرفش يجهز بنته!!.. 

والفشخرة الكدابة فى مصروفات الزواج أصبحت من أهم الأسباب الرئيسية فى العزوف عن الزواج، وارتفاع نسبة العنوسة بين الفتيات والشباب، فمعظم الشباب المصري خاصة الذي يتسم بالمسئولية والرجولة، لا يقبل على الزواج إلا بعد أن يجد الوظيفة أو المشروع الذي يحقق له دخل ثابت، يستطيع من خلاله توفير نفقات الزواج، ويستطيع أن يصرف على بيته وزوجته بعد الزواج. 
والأكثر غرابة أن مصروفات الزواج الباهظة قد تكون سببا فى زيادة نسب الطلاق التى تشهدها مصر خلال السنوات الماضية، فكلا الزوجين لو لم يكونا متفاهمين إلى حد كبير، يمكن أن يعاير أحدهما الآخر بما أنفقه على الزواج، وتكون سببا في الانفصال. 

ومع هذه المتاهات التي تعيشها الأسرة المصرية، والمعاناة التى تقع على كاهلهم، لا بد من وجود مبادرات لطرح حلول لتخفيف الحمل ورفع العبء عن المصريين، لتكون بداية هادئة لأسرة جديدة تكون لبنة صالحة لبناء مجتمع صالح. 

وحسنا فعلت بعض القرى أو بعض الحالات الذين رفضوا الشبكة، وغيرهم من رفض قائمة منقولات الزوجية، والكثير الذي رفض إقامة حفل الزفاف،  ويكتفي بكتب الكتاب ثم يقوم بمصروفات الزواج قضاء شهر عسل سواء داخل مصر أو خارجها. 

وما المانع أن تكون البداية بسيطة مثل ما نرى ونسمع عن طقوس الزواج في معظم الدول الأخرى، فالشاب فى الدول الأوروبية يبدأ حياته في شقة عبارة عن استديو غرفة وصالة بمطبخ وحمام، ليبدأ حياة أسهل من حياة  الشاب فى مصر.. فالشاب فى أوروبا مثلا مش مطلوب منه لما يتجوز  يجيب شبكة بعشرات الآلاف من الجنيهات وفرح فى قاعة إيجارها بالمثل.. وغيرهم من موبيليا جديدة وشقة تمليك بآلاف مؤلفة، دا طبعا غير باقي التحابيش الجانبية من ميكب أرتيست وفوتوسيشن وحفلة حنة وحفلة خطوبة ودي جي.. وغيره من الاختراعات التي لا تعد ولا تحصى من مصاريف أكتر وأكبر من أن يتحملها الشاب في بداية حياته ويسعى للإستقرار وعلى أهل العروسة كمان.
يا سادة إن الازمة التي يعانيها الشباب في الزواج من مصروفات مبالغ فيها، هى صناعة محلية تندرج تحت مسمى الفشخرة الكدابة والتقليد الاعمى، بين الأسر المصرية خاصة فى الأرياف والمناطق الشعبية،«بنتى مش أقل من فلانة» ..«إبنى مش أقل من إبن فلان» !! 

وهو ما نراه في الشوارع والطرقات، فأصبح يوم نقل عزال العروسة احتفالا كبيرا يفوق احتفال الفرح نفسه، وزيطة ملهاش لزمة تعطل المرور ومصالح الناس، علشان الكل يتفرج معلنين عن ذلك بسيارة تحمل الدي جي الذي يزعج كل من يمر عليهم..

والسؤال الذي يطرحه الجميع حتي المجبرين على المشاركة فى عزال العروسة، « وإيه لزمة الفشخرة دى كلها؟؟» 

فجهاز العروسة دلوقتي بما يحتويه من لوزام المطبخ وجبال الفوط والبشاكير والملايات عايزة مخزن لوحده مش أوضة نوم، وكمان ملابس العروسة والأسعار المبالغ فيها، فكل من وقع تحت طائلة تجهيز عروسة، يصرخ من كمية الملابس اللى العروسة عاوزاها، حتى الملابس الداخلية «الأندر وير»  الواحد ثمنه يفوق 100 جنيه، والعروسة لازم تدخل ومعاها 10 أطقم يعنى ميقلش عن 30 أندر، يعني ميقلش عن 10 آلاف جنية أندرات وقمصان نوم بس، غير العبايات وأطقم الخروج.. 

والنهاية تيجي بإن العريس يبصم على قايمة منقولات الزوجية بمئات الآلاف من الجنيهات، وممكن يبصم كمان على وصلات أمانة يعني متكلبش من الناحيتن، من الناحية الزوجية ومن الناحية القانونية.. 

أعتقد أن المصريين الآن في حاجة إلى العودة إلى بساطة العيشة، ونبذ المظهرة والفشخرة الكدابة، والعودة بأقصي سرعة إلى ثقافة ترشيد الإستهلاك، وعدم المغالاة فى التجهيزات الزوجية، والمهور وقيمة الشبكة وغيرها من الأمور، والرفق بأبنائنا المقبلين على بناء حياة زوجية جديدة، حتى تكون لبنة جديدة صالحة في بناء المجتمع المصري.